دراسات إسلاميــــــــــة
الحرب في التراث العربي والإسلامي
بقلم: صلاح عبد الستار محمد الشهاوي(*)
* الحرب:
ظاهرة سيئة منيت بها الإنسانية في صميمها
وقدر لها أن تتصف بها من حين خلقها الله وسجل عليها التاريخ وابتدأ بها الزمن ,
والحرب في الكثير الأغلب إنما يورثها طمع القوة في الضعف وهناك مسببات أخرى لها
كالدفاع عن عقيدة دينية وحب الأخذ بالثأر والسعي وراء بسط النفوذ والرغبة في
الاستيلاء على بلد ذي مال في موقعه الجغرافي أو إنتاجه الزراعي أو صادرة المعدني
وهذا من أقوى العوامل في استعمال نيران الحرب بين الدول إن لم يكن أقواها(1).
* الحرب في التراث العربي الجاهلي:
لم يكن عند قبائل العرب المتبدية جيوش منتظمة؛ ولكن جميع أفراد القبيلة شيوخاً وشباباً كانوا يلبون
نداء القبيلة عندما يستنفرهم رئيسها؛ لأنهم يندفعون في ذلك وراء العصبية فقد كان
حب القتال مغروساً في نفوس العرب في الجاهلية حتى تحول إلى شغف بالسيطرة والغلبة
عن طريق البغي والبطش والمبادرة بالعدوان ولا يمكن التوصل إلى الحق والسيطرة إلا
عن طريق هذا(2) , ويقول عمر بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس
خسفا
أبينـــا أن نقر الذل
فينا
لنا الدنيا ومن أمس
عليها
نبطش حين نبطش قادرينا
بغاة ظالمينا وما ظلمنا
ولكن سنبدأ ظـالمينـــا
وقد ذهب العرب في الجاهلية إلى اعتبار أن
الظلم والبغي الطريق الوحيد الذي يصل المرء بواسطته إلى الحق فالحق هو القوة أو
الحق إلى جانب القوة (3) ويقول شاعرهم:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
وفى سبيل الوصول إلى الحق والقوة والسيطرة
استطاب العرب الجاهلي الموت في ساحة الوغى وازدرى الموت حتف الأنف وأنف منه
فالميتة الكريمة هو أن يموت الرجل في ميدان الحرب ويقول عمرو بن كلثوم.
معاذ الإله أن تنوح
نساؤنا
على هالك أو نضج من
القتل
قراع السيوف بالسيوف
أحلنا
بأرض براح ذي أراك وذي
أثل(4)
وكانت حياة العربي الجاهلي غير مستقرة من هذا
الجانب فهو دائم التأهب للحرب أما في طلب الثأر لنفسه أو توقعاً منه يقول دريد بن
العمة:
آبى القتل إلا آل صمه
أنهم
أبوا غيره والقدر يجرى
إلى القدر
فأما ترينا لا تزال
دماؤنا
لدى واتر يسعى بها آخر
الدهر
فإنا للحم السيف غير
نكيره
ونحلمه أحياناً وليس
بذي نكر
يغادر علينا واترين
فيشتقى
منا إن أصبنا أو نغير
على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين
بيننا
فما ينقضي إلا ونحن على
شطر(5)
هكذا رأي العربي بفطرته أن خوض غمار الحروب
هو حماية أولاً للحرية التي جبل عليها نفسه ودفاعاً ثانياً عن خلة الوفاء التي
ارتضاها لنفسه شريعة تنظم معاملاته الخاصة والعامة وردعاً ثالثاً لرزيلة الغدر التي
اعتبرها أخطر آفة تهدم المجتمعات البشرية وتحرمها نعمه الطمأنينة والاستقرار ظهر
ذلك جلياً في حديث النعمان بن المنذر- ملك الحيرة - لكسرى ملك الفرس. قائلاً: «أيها الملك ما من أمة تقرنها بالعرب إلا
فضلتها بعزها ومنعتها وحسن وجوهها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة عقولها
وأنفتها ووفائها والعرب لم ينلهم نائل حصونهم ظهور خيولهم ومهادهم الأرض وسقوفهم
السماء و جنتهم وعدتهم الصبر. إذ غيرها من الأمم إنما عزها الحجارة والطين وجزائر
البحور وأما العربي فإن أحدًا ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن
داره فيصاب فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته» هذه هي التقاليد والمفاهيم التي سادت
الحروب القبلية قبل الإسلام والتي اشتهرت باسم – أيام العرب – فلم تكن الحروب أعمالاً همجية ولكن مراه
صادقه لفلسفه العربي في الحياة وأسلوبه أيضاً في توفير أسباب العيش لنفسه وأهله إذ
كان العربي يعتبر الأرض التي تنتشر عليها مضارب قبيلته ومراعيها هي – الحمي– الذي يجب أن يذود عنه و- الدار- التي يجب
أن يدافع عنها بكل مرتخص وغال. وفرض هذا المفهوم الفطري على العربي ألا يكون
البادئ أبدًا بالعدوان؛ لأن سلامه – الحمي والدار– تطلب منه إتباع سياسة حسن الجوار نظرًا
لتداخل مضارب القبائل بعضها مع بعض فضلاً عن احترام العهود والمواثيق باعتبارها
القانون الذي يستطيع وحده تنظيم الحياة في بيئة تدفع إلي التجوال والترحال وظل
العربي مسالماً ووفيًا في نفس الوقت طالما احترم جيرانه أرضه ومواثيقه؛ ولكن إذا
أحس خطرًا يتهدد- الحمي أو الدار – التابعة له هب للقتال في ضراوة وبسالة عملاً بقول
الشاعر العربي:
وما
أبتغي الشر والشر تاركي
ولكن
متى أحمل علي الشر أركب(6)
ثم بدأت تقاليد القتال تحدد سلوك العربي في المعارك
التي امتلأت بها الحروب القبلية حيث ألزمته بإتباع كل ما يعلي ذكره والابتعاد عما
ينتقص من قدره فاتخذ العربي من – المبارزة والنزال- سبيلاً لإظهار شجاعته وبسالته وما
يصاحب ذلك من المنداة على خصمه حتى يستعد للقتال عن وعي كامل وإدراك سليم بأهداف
هذا القتال وأسبابه أيضاً. إذ نفر العربي طوال القتال من طعن الخصم من الخلف حيث
رأى في ذلك ضرباً من الغدر الذي تأباه نفسه ومظهر من مظاهر الجبن والخسة الكامنة
في النفوس وزاد في دعم هذا اللون النبيل من تقاليد القتال أن الحروب القبلية وقعت
على رجال القبيلة وفتيانها الأحرار وحدهم وهم الذين تربوا علي الإباء والشمم
والحرص علي نيل المعلي عن طريق التمسك بخصال الشرف وما يقترن به من الأعمال
النبيلة : (7)
***
عرب الجاهلية يصفون الحرب:
قال
النابغة الذبياني يصف الحرب:
تبدو كواكبه والشمس
طالعة
لا النور نور ولا
الإظلام إظلام
يريد بقوله تبدو كواكبه والشمس طالعة شدة
الهول والكرب كما تقول العامة أريته النجوم وسط النهار(8) وقالوا: الحرب رحى ثقالها الصبر (ما يبسط تحت
الرحى عند الطحن) وقطبها المكر ومدارها الاجتهاد وثقافها الأناة- الثقاف – أداة من خشب أو حديد تف بها الرماح لتستوي وتعتدل -
وزمامها الحذر ولكل مقام مقال ولكل زمان رجال والحرب بين الناس سجال والرأي فيها
أبلغ من المقال، وسئل عمرو بن يكرب صف لنا الحرب قال مرة: المذاق إذا كشفت عن ساق
من صبر فيها عرف ومن نكل عنها تلف وسأله عمر بن الخطاب عن الحرب فقال مرة: المذاق
إذا قلعت عن ساق من جسر فيها عرف ومن ضعف عنها تلف، وهي كما قال الشاعر:
الحرب أول ما تكون فتيه
تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا استعرت وشب
خرامها
عادت عجوزًا غير ذات
خليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت
مكروهة للشم والتقبيل(9)
وسأله
عمر بن الخطاب عن السلاح فقال: الرمح أخوك وربما خانك والنبل منايا تخطئ وتصيب والترس هو المجن وعليه تدور الدوائر
والدرع مشعلة للفارس متعبة، وقال عنترة يصفها: أولها شكوى وأوسطها نجوى وأخرها
بلوى(10).
**
النساء يشاركن في الحرب في العصر الجاهلي:
كانت النساء يشاركن الرجال في الحرب لبعث
الحمية والحماسة في قلوب الرجال كما فعلت نساء شيبان وبكر بن وائل وعجل في يوم ذي
قار فأنشدن :
إن يظفروا يحرزوا فينا
الغزل
أيها فداء لكم بنى عجل (11)
وأنشدت ابنة القرين الشيبانية تحث قومها
الاستبسال:
أيها بني شيبان صفًا
بعد صف
أن تهزموا يصبغوا فينا
القلق
ويوم
- فيف الريح - حملت
- مذجج - معها النساء والذراري حتى لا يفر الرجال من
المعركة(12)، ويقول عمرو بن كلثوم واصفاً خروج النساء إلى المعركة وأخذهن عليهم
عهدًا ألا يفروا من المعركة:
على أثارنـا بيض حســان نحاذر أن تقسم أو تهـونا
ليستلبنى أفــراساً وبيضاً وأسرى في الحديد مقرنينا
يقتن جيـادنا ويقلن لستم بعولتنا إذا لم تمنعـــونا (13)
وفى موقعة أحد اشتركت نساء قريش الوثنيات في
المعركة لتشجيع المشتركين وجعلهن يضربن بالأكبار والدفاف والغرابيل في مقدمة صفوف
المشركين ومعهن المكتحل والمراود ثم يرجعن إلى مؤخرة الصفوف وجعلن كلما ولى رجل
حرضنه وذكرنه قتلاهم ببدر وكانت هند بنت عتبة وصواحبها يحرضن ويزمرن الرجال
ويقلن:-
نحن بنات طارق نمشى على النمارق
إن تقبلوا نعــانق وأن تدبروا نفارق
فراق غير وامق
ومما قالته أيضا:
وبها عبد الدار وبها
حماة الأديار
ضربا بكل بتار(14)
وعودة إلى الحرب في التراث العربي الجاهلي
والشغف بالسيطرة والغلبة عن طريق الرغبة فقد ظلت هذه الروح الجاهلية مغروسة في قلب
الجاهلي حتى جاء الإسلام فخمد أوراها -
وغير مفاهيمها وتسامى بها ووظفها لخدمة القيم والفضائل(15).
***
الحرب في التراث الإسلامي:
كان لابد للإسلام وهو الدين الحق الذي اصطفاه الله منهاجاً للحياة أن يتخذ موقفاً من
غريزة الصراع من أجل البقاء فوظفها لخدمة الحق والانتصار لقضية العدل والتصدي
للظالمين والطغاة الذين سلبوا من الإنسان حريته وكرامته انتصارًا لأهواء ضالة
وإرضاءً لنفوس مريضة وسعيًا إلى شهوات غالبة، ولما كانت هي المظهر الغالب للصراع
البشري على اختلاف مراحل التاريخ وجدنا أن الإسلام وضع لها تصورًا قويماً ورسم لها
أطارًا كريماً فذكر الباعث الإنساني للحرب وحدد أخلاقياتها وأهدافها وجعل باعثها
الدفاع عن القيم وحراسة الفضائل وحماية العقيدة وإقرار الأمن وذلك من منظور فلسفي
اجتماعي في موضعين من كتاب الله عز وجل أولهما في سورة البقرة بقوله تعالى: «وَلَوْلاَ دَفَعَ
النَّاسُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأرْضُ ولٰكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلى الْعَالمين»{البقرة 251} والموضع
الآخر في سورة الحج يقول تعالى «ولولا دَفْع الله
النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّـهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَّصَلَواتٌ
وَّمساجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ الله وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَّنْصُرُه إنّ
اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» {الحج 40}، وفى هذه الآية تأكيد للمهمة الإنسانية للحرب في الإسلام
وأنها تستهدف حماية القيم الدينية ممثلة في صيانة الصوامع والبيع والمساجد وأنها
تسموا إذا كانت منها الانتصار لدين الله وشريعته «وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ
مَنْ يَّنْصُرُه إنّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيْزٌ» ومن هذا المنطق جاء
الإذن للمسلمين بالقتال بعد أن استقر لهم المقام في المدينة بعد الهجرة لأهداف
محددة تتمثل في تأمين طريق الدعوة والدفاع عنها وردع البغاة والمعتدين(16)،
والإذن بالقتال في الإسلام جاء محاطاً بعدد من الضوابط والقيم حتى لا تخرج الحرب
في ظل الإسلام عن منهجها الإنساني – لا قتال في الشهر الحرام ولا في رحاب المسجد الحرام وهذه قيود
زمانية ومكانية من شأنها ألا تجعل من الحرب سلوكاً مستمرًا في حياة البشر
ولا يصح التعدي على حرمة الزمان أو المكان إلا إذا بدا القوم بالتعدي عليها(17)،
والقتال في الإسلام لا بد أن يرتبط بغاية شريفة بأن يكون في سبيل الله وأن يقاتل
المسلم من يقاتله وألا يكون قتاله متجاوزًا أو متعديًا بمعنى أن تسير الحرب في
إطار إنساني كريم. يقول تعالى «وقَاتِلُوا في سَبِيْلِ الله الَّذِينَ يُقاتِلُوْنَكُمْ ولا
تَعْتَدُوا إنَّه لا يُحِبُّ الْمعْتَدِيْن» {البقرة 190} معنى هذا
أن الحرب في الإسلام مهمة سامية وغاية نبيلة وهدف بناء يحمى القيم ويكسر شوكة
البغي ويضع حدًا لانحرافات السلوك وضلالات العقيدة. ويقول تعالى «وقاتِلُوهُمْ حَتّى لا
تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُوْنَ الدينُ كُلُّه لله» {الأنفال 39}ومن أخلاقيات
الحرب في الإسلام أن المسلم لا يحمل سيفه إلا بعد بينة يستبين له معها خطورة العدو
وتمرده فإذا رفع شعار السلام حرم قتاله وليس لنا أن نبحث عن دخيلة نفسه مع أخذ
الحذر والالتزام بالحيطة يقول تعالى «يأيُّها الَّذِينَ اٰمنوا إذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله
فَتَبَيَّنوا ولا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إلَيْكُمُ السَّلام لَستَ مُؤمِنًا
تَبْتِغُونَ عَرضَ الحياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ الله مَغانِمُ كَثِيْرَةٌ» {النساء 94} ولسلامة
الغاية وسمو الهدف في الحرب الإسلامية نرى أن مسيرة الحرب ذات سلوك متميز وتحيط
بها أخلاقيات عالية فالإسلام أول من رفض ضرب الأهداف المدنية والتعرض لغير
المقاتلين من الشيوخ والنساء والأطفال(18).
هكذا وسع الإسلام دائرة التقاليد العربية
الخاصة بالحرب بعد أن أزال عنها ما علق بها من شوائب – العصبية القبلية- وزودها بتعاليم الدين
الإسلامي الحنيف وما امتلأت به من معان إنسانيه سامية. فلم تعد الحروب سبيلاً
لنصرة القبيلة علي جاراتها من القبائل؛ ولكن غدت الحروب فرضاً قرره الدين الإسلامي
من أجل حماية الأمة الجديدة التي غدت تحتضن جميع القبائل العربية على قدم المساواة
لا فضل لواحدة منها على الأخرى إلا بالتقوى. فاكتسبت تقاليد القتال في ظل العهد
الإسلامي الجديد مزيدًا من القواعد الأساسية التي جعلتها موضع الهيبة والإجلال إذ
أكد الإسلام أن مفهوم الحرب هو الدفاع عن الدين الجديد ودون الالتجاء إلى أعمال
العدوان وذلك في قوله تعالي «وقاتِلُوا فِيْ سَبِيلِ الله الَّذِيْنَ
يُقاتِلُوْنَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ» البقرة 190 وارتبط بتلك القواعد الجديدَة
أيضاً أسمى تقاليد القتال وهو الابتعاد عن استخدام القتال سبيلاً لعرض الدين نفسه
وذلك عملاً بقوله تعالي «لا إكراه في الدين» البقرة 256.
وحدد القرآن الكريم الذي هو دستور أمة
الإسلام الأسباب التي يحق للمسلمين الحرب لأجلها بأربعة هي:
1- رد العدوان والدفاع عن النفس والمال
والوطن وذلك بالآية «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ» البقره194.
2- الدفاع عن الدعوة الإسلامية وتأمين حرية
الدين والاعتقاد وذلك بالآية «ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا» البقرة217.
3- تأديب ناكتي العهد وذلك بموجب حكم الآية «وإنْ نَّكَثُوا أيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ
عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِيْ دِيْنِكُمْ فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ إنَّهم لا
أيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» التوبة 12.
4- درء للفتنه التي يحاول أعداء الدين إشعال
نارها بين صفوف المسلمين وذلك استنادًا لأحكام الآية «وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكونَ فِتْنَةٌ
وَّيَكُونَ الدِّيْنُ لله فَإنِ انْتَهَوْا فلا عُدْوانَ إلا عَلى الظالمين» البقرة 193.(19)
- كما حدد القران الكريم أسلوب إعلان الحرب
فلا يبيح للقائد أن يبدأ قتال العدو إلا بعد بإبلاغه وذلك لئلا تكون الحرب وسيلةً
للخداع من جانب المسلمين قال تعالي «وإمّا تَخافَنّ مِنْ قَوْمٍ خِيانةً فانْبِذُ إلَيْهم
عَلى سَواء إنّ اللهَ لا يُحِبُّ الخائنين» الانفال58. (20)
***
الرسول القدوة :
كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أرسل سريةً إلي قتال غير المسلمين قال
لأميرها- إذا لقيت عدوك فادعهم إلى ثلاث خصال فإن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف
عنهم–.
1 –
ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم.
2 –
فان أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فان أجابوا فاقبل منهم.
3 –
فان أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.(21)
وروي
عن أسامة بن زيد الليثي
أنه قال «كان النبي صلى الله
عليه وسلم إذا غزا أخذ طريقاً وهو يريد أخرى ويقول الحرب
خدعة»(22)، وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا بعث جيشًا أو سريةً قال أغزو بسم الله وفى
سبيل الله تقاتلون من كفر بالله لا تغلوا –
لا تضعوا الأغلال في الأيد والأعناق
- ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا
تقتلوا امرأةً ولا وليدًا فإذا بعثت جيشًا أو سرية فمرهم بذلك(23)
ولم يقدم النبي عليه الصلاة والسلام على التعرض لهدف مدني إلا عندما تحصن اليهود
من بنى النضير بعد الفساد بنخيلهم فأخذ المسلمون يقطعونه وعند ذلك قال اليهود على
طريقتهم في الإثارة يا محمد أنت
تنهى عن الفساد وتعيب من يفعله فما بال قطع النخيل وتحريقها ويتوقف النبي لحظة
وتنزل عليه الآية الكريمة «ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِيْنَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوْها قائِمَةً عَلى
أُصُوْلِها فَبِإذْنِ الله ولِيُخْزِيَ الفٰسِقِين»{الحشر 5} وفى غزوة مؤتة وجه صلى الله عليه وسلم نصيحته الشهيرة للصحابة
الثلاثة الذين عهد إليهم بقيادة سرية مؤتة «أغزو باسم الله وقاتلوا
عدو الله وعدوكم بالشام ستجدون قوماً بالصوامع معتزلين فلا تمسوهم بسوء ولا تقتلوا
امرأة ولا صبيًا ولا تخلعوا شجرًا ولا تهدموا بناءً»(24).
كما حددت شريعة الحرب عند العرب المسلمين
وطبقًا للتعليمات النبوية أنه لا يجوز في الإسلام الاعتداء على النساء والشيوخ
والأطفال والرهبان وقصر الحرب على رجال العدو والمحاربين وكان الرسول يحض كثيرًا
على التقيد بهذا المبدأ فقال صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه وقائدي جيشه: «انطلقوا باسم الله وبالله، وعلى ملة رسول
الله. لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلاً
ولا صغيرًا ولا امرأة ولا تغلوا وأصلحوا وأحسنوا فإن الله يحب المحسنين» وهذا أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم التعرض لكبار السن والنساء والأطفال باعتبارهم غير محاربين ولا يقوون على حمل
السلاح، فاعتبرهم من غير المشمولين بالحرب والقتل.. وهذا ما وصلت إليه الاتفاقيات
الدولية وخاصة اتفاقية جنيف لحماية
المدنين في 12أغسطس 1949م وهو كسابقة أصبح – حبرًا على ورق – لما نراه اليوم من تعرض المدنين شيوخاً
ونساءً وأطفالاً إلى القتل والدمار وبكافة أنواع الأسلحة ، وحتى المحرمة دوليًا،
كالأسلحة السمية،كيماوية وبيولوجية، ناهيك عن أسلحة الدمار الشامل.. فتراهم من جهة
يصرحون باتفاق معين لخدمة البشرية والسلام، ومن جهة أخرى يتغاضون عن أفعالهم أو
أفعال بعضهم في تدمير المجتمعات بوسائل أكثر وحشية.
كما قال صلى الله عليه وسلم في
وصية أخرى: (لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا). الذرية: الأولاد – العسيف (جمع عسفاء): العامل الذي يزرع
الأرض ويرعى الماشية. كما حرم الرسول صلى الله عليه وسلم النهب الذي كان يسود حروب الجاهلية في قوله صلى الله عليه وسلم :
(إن النهبة ليست بأحل من الميتة). وحرم صلى الله عليه وسلم التمثيل بالقتلى والإحراق بالنار فيروى عن
الرسول أنه كان يقول لأمير الجيش (اغزوا باسم الله في سبيل الله وقاتلوا من كفر
بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا). كما قال صلى الله عليه وسلم (إياكم و المثلة ولو بالكلب العقور).(25)
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يوجه ويعظ بتلك المُثل والتعليمات والأوامر فقط بل شارك بالأفعال. من ذلك «لما أسر عمرو بن أبي سفيان بن حرب، في
معركة بدر، وقع أسيرًا في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لأبي سفيان: افد عمرءًا ابنك! قال: أيجمع
على دمي ومالي، قتلوا حنظلة وأفدي عمرواً، دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم.
فبينما هو كذلك محبوس بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ خرج شيخ كبير مسلم إلي مكة لأداء
العمرة ، وكان اسمه سعد بن النعمان بن آكال- أخو بني عمرو بن عوف – فخرج معتمرًا، رغم أن الظروف السياسية
عصيبة، لا سيما بعد بدر.. ولم يظن أنه يحبس بمكة، وقد كان عهد أن قريشًا لا يعرضون
لأحد جاء حاجاً أو معتمرًا إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة، فحبسه
بابنه عمرو.. ومشي بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروا خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي
سفيان، فيكفوا به الشيخ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأفرج عن ابن أبي سفيان على الفور، دون
فداء، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلي سبيل الشيخ.(26)
وعلى هدية الكريم سار الصحابة والتابعون من
بعده وتركوا لنا وصاياهم إلى أمراء الجيوش لا تخرج في مجملها عن وصاياه صلى الله عليه وسلم منها وصايا أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى
يزيد بن أبى سفيان حين وجهه إلى الشام وإلى خالد بن الوليد في قتال أهل الردة
وكذلك وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند عقد الأولية ووصيته إلى سعد بن أبي
وقاص ثم وصايا الخلفاء إلى أمراء الجيوش خلال العهد الزاهر للفتوحات الإسلامية.
***
المرأة تشارك في الحرب في العصر الإسلامي:
اختلف دور المرأة في العصر الإسلامي عن دورها في العصر الجاهلي فهجرت دور المحرضة
والمشجعة والنائحة إلى المشاركة الفعلية فكانت النساء المسلمات وعلى رأسهن فاطمة
بنت الرسول يحملن الطعام على ظهورهن ويسقين الجرحى ويداوهن فكانت أم سليم بنت
ملحان وعائشة أم المؤمنين تحملن على ظهريها القرب وكانت - خمينة بنت جحش- تسقى
العطشى وتداوين الجرحى وكانت أم أيمن تسقى الجرحى وفى بعض الأحيان كانت تشترك في
القتال(27).
وبعد هذه هي الحرب في منظور الإسلام فلسفتها
أنها من ضروريات المجتمع البشري حفظاً على القيم أهدافها إنسانية نبيلة وسائلها
كريمة وشريفة وثمارها المرجوة ألا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وبذلك تغيرت
مفاهيم الحرب التي كانت سائدة في التراث العربي الجاهلي.
والله ولي التوفيق ...
المراجع:
1- أحمد محمد جمال - الحروب في استفتاء المنهل- مجلة المنهل العدد 448 ربيع الأول 1407هـ ص 56 .
2- السيد عبد العزيز
سالم - تاريخ العرب قبل الإسلام-
الهيئة العامة لقصور الثقافة 2000 م ص 364 .
3- المصدر السابق.
4- محمود شكري الألوسي - بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب- الجزء الأول ص133 .
5- أحمد محمد الحوفى
- الحياة العربية من الشعر الجاهلي- القاهرة 1956 ص258.
6- د/إبراهيم
أحمد العدوى – تقاليد القتال
عند العرب – مجلة العربي
يناير 1979 ص24.
7- المصدر
السابق ص26.
8- ابن عبد ربه - العقد الفريد - تقديم وتعليق احمد يسري الغرباوي - القاهرة 1992 ص122.
9- المصدر السابق ص120 .
10- ابن الأثير - الكامل فى التاريخ - دار
المعارف الجزء الأول ص 290 .
11- المصدر السابق ص 291 .
12- السيد
عبد العزيز سالم مصدر سابق ص 367 .
13- ابن
هشام - السيرة النبوية - القاهرة 1955 الجزء الثالث ص72.
14- السيد عبد العزيز
سالم -
مصدر سابق ص365 .
15- السيد رزق الطويل الحرب
في الإسلام مهمة إنسانية مجلة المنهل
العدد 550 صفر 1419 ص63 .
16- المصدر
السابق ص 64 .
17- المصدر
السابق ص65 .
18- ابن
عبدربه - العقد الفريد
- مصدر سابق ص155.
19- د /إحسان هندي-شريعة الحرب عند العرب المسلمين
مجلة الفيصل العدد9السنةالأولى ربيع الأول1398 فبراير1987م ص 20.
20- المصدر السابق ص 21.
21 – المصدر
السابق ص 24.
22 – د
/إبراهيم أحمد العدوي مصدر سابق ص 26.
23- السيد رزق الطويل - مصدر
سابق ص65.
24- أبو عبد الله محمد بن
عمر الواقدي : المغازي
دار المعارف 1974 ص210 .
25 – المصدر
السابق ص 215.
26- محمد بن يوسف الصالحي الشامي : سبل الهدي
والرشاد الجزء الرابع ص 70.
27 - أحمد محمد الحوفي مصدر سابق ص 260.
(*) دمشيت – طنطا – مصر. تليفون
محمول : 0109356970
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن
دارالعلوم ديوبند ، رجب 1432هـ =
يونيو 2011م ، العدد : 7 ، السنة : 35